الأربعاء، 9 مارس 2011


بسم الله الرحمن الرحيم


إن التواصل بين ضفتي النهر السنغالي لم يكن حكرا على جانب بعينه وإنما شمل مختلف الجوانب دون استثناء, ولقد كان للأدب حظ وافر من هذا التواصل، حيث شهدت الضفتان تبادلا ثقافيا وأدبيا كثيفا كل في اتجاه الأخرى، والمتصفح لدواوين شعراء الضفتين يدرك دون كبير عناء أنها تطفح بكم هائل من الحكايات الأدبية والقصائد والمقطعات الشعرية  التي تعبر عن تواصل أدبي حقيقي بلغ مداه في فترة من الفترات حتى تجاوز حدود اللغة واخترق حاجز الثقافة.
ويعتبر الشاعر محمد ولد أبن ولد احميدا أنموذجا حيا للتواصل الأدبي بين الضفتين, فقد عبر الحدود وخاض عباب النهر بشعره في أغرضه المختلفة.. مدحا وغزلا ونسيبا ...
"مدونة لكوارب" ــ وفي إطار رصدها لمظاهر التواصل بين الضفتين ــ تأخذ قراءها الكرام في رحلة أدبية خاطفة بين دفتي ديوان الشاعر محمد ولد أبن ولد احميدا لنقرأ في إنتاجه السنغالي:

 ــ مـــــدح

لعل أبرز محطات ولد أبن الأدبية في السنغال كانت مقامه عند حضرة الشيخ محمد المصطفى ولد الشيخ أحمدوبمبه في مدينة "طوبى", وتجمع أغلب الروايات على أن العلاقة بين الشيخ والشاعر بدأت لأول مرة يوم قدم الشاعر إلى مدينة "طوبى" فلم يجد العناية الكافية أو التقدير الذي كان يرجوه، فكتب أبياتا مطلعها:

يا شيخنا المصطفى يا منية الجاني

يا أرأف الناس بالقاصي وبالداني

فلما سمعها الشيخ بعث في طلبه فأعيد إليه من مدينة "اللوكه"ولما مثل بين يديه قال له الشيخ أأنت قائل هذه الأبيات، قال نعم وقد قلت غيرها, فأنشده قصيدته المشهورة:

أمنت من الخــــــــطوب أتيت طوبى
فطوبى للــــــــــــــــــــذي دفنوه فيها
فلا غدرا أخــــــــــــــــــــاف ولا أذاة
أتيت مدينة لله تدني


ويامن من ألم بها الخطوبا
وللشيخ الخليفة منه طوبى
من الدهر الخؤون ولا خطوبا
ويصفى يمن زورتها القلوبا

إلى أن يقول:

بها الشيخ الخديم ثوى فنالت
وأظهر سره فيها فدبت
وأفرغ في جوانبها
ذًنوبا
 

بيمن الشيخ منزلة وطيبا
حميا سره فيها دبيبا
من البركات تختطف الذنوبا...

وبعد أن استرضاه بهذه القصيدة توطدت بينهما المودة والصداقة, فأقام معه فترة وذات يوم قدم إليه الغداء مخلوطا بالسمك المجفف المطبوخ وهو طعام مفضل لدى السنغاليين, غير أن شاعرنا البدوي ما كان يعرف السمك لانعدامه في بيئته فلم يرغب فيه, وأحب أن يداعب شيخه، فأنشأ هذه الأبيات:

يا شيخ من أوصيتم بضيافتي
وتلطفوا لي في المقال وأطلعوا
لكنهم والدهر يركب أهله
خلطوا طعامهم بحوت يابس


عرجوا بإكرامي سماء عروجه
في كل برج منه سعد بروجه
ما شاء من أقتابه وسروجه
وأنا أعاف الحوت يوم خروجه

 وتروي الحكايات أن الشيخ لما سمع الأبيات استلقى على ظهره واستغرق في الضحك وهو يضرب برجله الأرض.
ولقد ظل محمد ولد أبن يتردد على الشيخ في مدينة "طوبى" وينظم في مدحه القصائد تلو القصائد، ومن ذلك رائيته:

طرقتني نوار عند "دكار"
وصلتني وطالما منعتني
دأبها الهجر لي ودأبي هواها
لست أسطاع عن "نوار" اصطبارا
كلما ازددت في نوار اشتياقا
 

فأثارت بلابلي وادكاري
وصلها غيبة الرقيب "نوار"
فهو في القلب مثل جذوة نار
خانني عن هوى "نوار"اصطباري
أظهرت لي زيادة في النوار

 إلى أن يخلص إلى مدحه فيقول:

فارقتني فأرقتني فدمعي
كندى المصطفى الخليفة في الأز


بين ما هو سافح أو جار
م إذا أخلف الغيوث السواري...
 
 و يبدو أن الشاعر لما مدح الشيخ  بقصائد عدة أحب أن يمدح أبناءه ترسيخا للعلاقة ورغبة في اكتساب ودهم جميعا, ويروى أنهم بالغوا في إكرامه لما سمعوا هذه الأبيات:

لقيت بني الشيخ الكرام عشية
وحيث المعالي والمعاني جلية
وحيث السخاء الصرف يخضر دوحه
وحيث طيور الخير تبدوا سوانحا
فأيقنت بالمأمول لما لقيتهم
أولاك أحبائي وأبناء ملجئي
"علي" علي من أصول علية
فبارك رب العرش فيهم وحاطهم


بجانب"طوبى"حيث تبدو الأباطح
وحيث منار الدين أبلق واضح
 يلوح بهم في بارق الشيخ لائح
ولم تبد للعين الطيور البوارح
وإن سهلت لي بالمراد المنادح
إذا ضرستني النائبات الكوالح
و"محمود" محمود و"صالح" صالح
من الكاشح النمام إن نم كاشح

  ولم يقتصر ولد أبن في مدحاته السنغالية على أسرة آل الشيخ أحمدو بمب وحدهم, كما لم يقتصر مقامه في السنغال على مدينة "طوبى" فحسب, وإنما طوف في شرق البلاد وغربها مادحا لأوجه عدة ولشخصيات من مختلف التوجهات الصوفية والسياسية ومن بسطاء القوم وعامتهم.
 وربما فزع الشاعر في بعض الملمات التي تنوبه إلى وجهاء القوم هناك فيمدحهم رجاء وساطتهم ووجاهتهم لدى الحاكم المستعمر, ومن ذلك قصيدته التي نظمها في مدح المترجم السنغالي في "سان لويس" الأديب محمد ولد أبن المقداد:
 
فت بين "الرباب" في العين صابا
وغلت في الحشا زوافر أنفا
راب بين "الرباب" قلبي ولم أش
فتلا فيت أخريات ركاب الظ
فبدت لي "الرباب" إذ صرت في وعـ
رمقتني فأومأت لي إيما


فجرى المدمع المصون وصابا
س تشكى الإهاب منها التهابا
عر إلي أن حدا الحداة الربابا
ظعن, والظعن تستحث الركابا
ث النقى تستميل عنها النقابا
ءا خفيا بأن أؤوب إيابا

 إلي أن يقول:
لم يكن في محمد عيب إلا
عالم عامل أديب ظريف
يأخذ الشعر من معان قريبا


أنه في إطاعة الله شابا
شاعر يمنع الخطيب الخطابا
ت بعيدات إن دعاه أجابا...

والقصيدة تبلغ خمسين بيتا, وأرجح الروايات تميل إلى أن سبب نظم الشاعر لها هو أن حاكم أبي تليميت بعث في طلبه للتحقيق معه في بعض التهم الموجهة إليه فخرج من موريتانيا سالكا طريقا مهجورة متوجها إلى السنغال والأمل يراوده في أن يستصدر عفوا من الحاكم الفرنسي العام لموريتانيا هناك مستعينا في ذلك بوجاهة ممدوحه محمد ولد أبن المقداد, وقد تم له ما أراد.
وله في مدح أبناء المقداد السنغاليين عموما:

يا من جعلتم رضا المولى تجارتكم
ومن أمارتكم في الناس أنكم
هيْنون ليْنون أقحاح جهابذة
يا من إذا خاف أقوام خفارتهم
يود أعقل أدنى فوق شاهقة
إني محبكم قدما ومادحكم
ولا أعد لهول داهم جلل
ولا أعبر عما جئت فيه لكم


وبعتم دركم فيه ودارتكم
لا تذكرون وإن جلت إمارتكم
كان العُقار وقد شُج استعارتكم
فيمن أجاروه أديتم خفارتكم
لو كان جاركم أو كان جارتكم
وسامع إن أشرتم لي إشارتكم
مادمت واجدكم إلا زيارتكم
إلا بـ"كم" فافهموا عني عبارة "كم"
 وله في مدح سنغالي يدعى "ساخ" وهو تلميذ لأسرة آل الشيخ سيديا المشهورة:

في "ساخ"راسخ طبع الشيخ متضح
لا غرو إن رسخت فيه جبلته
يمم لحاجك سيب البحر أو"ساخ"
شأى المجارين في الدينار أجمعه


لم يخف راسخ طبع الشيخ في "ساخ"
طبع الألباء في ذي اللب رساخ
من عنده بِِِدر النقدين أو ساخ
 سيان إن ركضوا في الشأو أو ساخوا

و الأبيات الأربعة وردت في مساجلة بين الشاعر وأبي مدين ولد أحمدو ولد اسليمان الديماني ومحمد ولد أبن المقداد السنغالي في "ساخ" المذكور.
وقال أيضا يمدح سنغاليا في مدينة "تياس"يدعى"جبرائيل":

ألا يا جبرئيل نماك "دودو"
وسماك الأمين وذي سماة
وأحضرك الكرام لتلتقيها
وأمك في الورى عصماء عقد
لها صبح تبلج تحت ليل


إلى عليا نمتك لها الجدود
بها تعلو إذا حضر الوفود
وليت زمان حضرته يعود
يتيمته إذا نُظم العقود
وألمى واضح عسل برود

وله أيضا في مدح الشيخ عبد كنت الصوفي القادري السنغالي في بلدة "انجسان":
ألا يا عبد إن عليك سيما
يلوح بوجهك الوضاح نور
فإن جاراك من حسد حسود
ورام مقامك الأعلى وأغلى
فلا تعتب فأنت حُلا النوادي
أبي الضيم مبثوث المزايا


جدودك فهي محجلة الدراري
توورث عن أكابرك الكبار
وسامك بالمذلة والصغار
لظى الشحنا وأعلن بالضرار
منارة كل حيران وسار
عزيز الجار محمي الذمار...

إلى آخر القصيدة التي يبلغ تعدادها حوالي ثلاثة وثلاثين بيتا.
ولقد أقام الشاعر فترة عند الشيخ عبد كنت, فكلف الشيخ أحد مريديه ويدعى "مالك افال" بضيافة الشاعر الذي رأى أن يكافئه بأثمن ما يملكه وهو الشعر, حتى ولو كان" مالك افال" لايفهم العربية ولا الشعر, فقال في مدحه:

حلفت برب العرش ما وكل أمرؤ
تمالك عن فعل المذمة طبعه
ولا تعجبوا من كل ما حاز "مالك"


على شأن ضيف زائر مثل مالك
ولم يك عن علياء بالمتمالك
فذالكم من فضل مالك "مالك"